للشعراء شياطينهم الذين يوسوسون لهم بدقائق المعاني وخفايا الأفكار التي لا ينفذ إليها الناس العاديون، وكان العرب يعتقدون أن شياطين الشعراء يسكنون “وادي عبقر”. ولا أعرف هل هذا الوادي موجود بالفعل أم لا، ولم تفدني كل الأقمار الاصطناعية الأمريكية في ذلك، ولكنني أعرف أن “العبقرية” منسوبة له، وحتى في اللغات اللاتينية يبدو أن كلمة genius أو “عبقري” مشتقة من كلمة “genni” أي “جن”، ونعلم من النابغة الذبياني أن الجن هي التي بنت لسليمان الحكيم عليه السلام قصره، وهذا يعني أن بينهم فنانين ومهندسين بارعين يصنعون ما نعجز نحن عن صنعه، ويقول أبو العلاء المعري إن العرب كانوا “كلما رأوا شيئاً حسناً عدوه من صنعة الجن”.
وشياطين وادي عبقر، في رأي عرب الجاهلية، يختلفون عن الشيطان الذي يعرفه الناس ويجمعون على أن مهمته الوحيدة في هذه الدنيا هي الإغراء بالمعاصي والذنوب وتضليل المهتدين وجرهم إلى الانغماس في الملذات، إنه شيطان له مهمة محددة هي الوسوسة بجميل المعاني، والعلاقة بينه وبين الشاعر معكوسة، بمعنى أن الشاعر كان يصنع شيطانه على الصورة التي يتخيلها، وكثيراً ما كان يكلفه ببعض الأعمال، فينجزها له، فهذا أبو نواس مثلاً يستدعي شيطانه ويطلب منه أن يمنع عذاله وخصومه والذين يأنف منهم ويتعالى عنهم، عن شرب الخمر، ويقول: “ناديت أبليس ثم قلت له لا تسق هذا الشراب عذالي” لكي لا “ينعم العذال بالنشوة” التي يحس بها أبو نواس من الخمر.
وعندما كتب الشاعر البريطاني ملتون ملحمته الرائعة “الفردوس المفقود” كانت في بريطانيا ثورة ضد الملك، ولذلك صور شيطانه بصورة شخص ثائر، ووضع على لسانه الكلام الذي يريد أن يقوله ولكنه يخفيه في مضامين القول، وهذا ما فعله الشاعر الإيطالي كاردوتشي في نشيده إلى إبليس، عندما كانت إيطاليا تغلي بالثورة.
وشيطان الشاعر الألماني المبدع، غوته، يرمز إلى التمرد، والكبرياء، والمعرفة، وهي صفات يزعم الذين يؤمنون بتفوق العرق الألماني أن الألمان يتميزون بها، ولذلك فإن هذا الشيطان يخترع إكسيراً يرد به المسنين إلى الشباب ويساوم به الناس على ضمائرهم وأرواحهم، وقد باع فاوست نفسه للشيطان مقابل ذلك، وعقد تحالفاً ابدياً معه.
وكم يبدو طريفاً عندما نقرأ للشاعر الشرقي “السعدي” صاحب “البستان والجلستان” وهما اللذان ترجمت معظم قصائدهما إلى العربية إنه كان يرى شيطانه في المنام ويتحدث إليه، ولكن المثير أن شيطان السعدي لم يكن قبيح الشكل كما يتصور الناس، وإنما كان جميلاً جداً، وعندما يسأله السعدي عن السبب الذي يجعل الفنانين يرسمونه بصورة بشعة تنقبض لها القلوب يقول له: “لا تصدق يا صاح إنه مثالي ذاك الذي رأيت فيما يرسمون/ فإن الريشة التي ترسمني تجري بها يد عدو حسود”. ولا شك في أن السعدي الذي عرف بتصوفه وزهده لم يصور الشيطان على هذه الصورة، إلا بعدما رأى “شياطين البشر” بصورة تروق للعين، وإن كانت لا تروق للقلب.
وقصة الشاعر الروسي ليرمنتوف مع الشيطان طريفة، فالشيطان في شعره يتعرض للغواية ويحب فتاة من الإنس ويتراءى لها في أجمل منظر، فتهواه وتكاد تجفو خطيبها من أجله، ولكن الشيطان لا يقتنع بذلك، ويقتل خطيبهاويجلب جثته إليها لتتأكد، فتحزن الفتاة عليه، ويذبل جمالها، وتنذر نفسها للرهبانية مدى الحياة، فيجن الشيطان ويحاول ملاحقتها، ولكنه يفشل.
وبعض البشر يدفعون حتى الشياطين إلى الجنون.
موضوع: شياطين الشعراء 
الثلاثاء 18 مارس - 14:30
